التقييم : 4.5/5
بطولة :
جان بول بولمندو ، سيرجي ريجياني
إخراج :
جان بيير ميلفيل (1962)
قبل أن يحقق جان بيير ميلفيل غزوتيه الأشهر في عالم الجريمة مع Le Cercle Rouge و Le Samouraï قدم الرجل عمله هذا الذي افتتح
به سلسلةً من خمسة أفلامٍ تناولت العالم السفلي و صراعات العصابات و رجال التحقيق
، إذا كنت تحب نصوص تارانتينو ، فهذه هي الحكاية المفضّلة لديه شخصياً ، و التي كان لها الأثر البالغ – كما يقول – على نص Reservoir
Dogs .
قبل هذا الفيلم تناول ميلفيل عالم الجريمة من خلال كلاسيكيته Bob the Gambler التي أثرت بشدة على الموجة الفرنسية الجديدة التي ضربت بعده ببضعة أعوامٍ فقط ، يقال أن غودار منح ميلفيل دوراً في Breathless تقديراً لأثر ذلك الفيلم على رؤية الموجة للسينما التي تعتزم ترسيخها في فرنسا حينها ، بعيداً عن الموجة كان ميلفيل متفرداً ، يغرّد خارج السرب و يقدم الفيلم النوار لجمهورٍ اعتاد الحصول عليه من ما وراء البحار ، صحيح أن نواريات هوليوود تأثرت في جزءٍ من بنيتها البصرية أساساً بالواقعية الشعرية الفرنسية ، إلا أن ميلفيل لم يأخذ المسألة من مبدأ العودة للأصول ، هو يقدّم – إبتداءً من هذا الفيلم – الفيلم النوار المتأثر بشكلٍ صريح بنواريات هوليوود بعيداً عن خصوصية الزمان و المكان و اللغة ، و ينجح في ذلك جداً .
الحكاية عن موريس المجرم الذي غادر السجن للتو بعد محكومية بأربع سنوات ،
يعود محملاً بماضيه إلى أصدقائه القدامى بحثاً عن فرصةٍ جديدةٍ في العالم السفلي :
جيلبرت الذي انتهى للتو من عمليةٍ ضخمةٍ استهدفت متجراً
للمجوهرات ، و سيليان الذي يحاول مساعدته في تنفيذ عملية سطوٍ صغيرةٍ على أحد
المنازل ، لكن الأمور في ظاهرها محكومةٌ بالكثير من مخلفات الماضي ، حيث تتلاشى
الحواجز بين الطيب و الشرير ، و الصديق و الخائن .
يفتتح ميلفيل فيلمه السابع – المقتبس عن روايةٍ لبيير لوسو – بتعريف ميلفيل لعنوان الفيلم الذي يعني في اللغة التقليدية القبعة و في لغة العالم السفلي من يعتمر القبعة و تحديداً : المخبر السري ، الإنسان الواقع في المنتصف بين عالم الجريمة الذي يعيش فيه و عالم الشرطة الذي ينتمي له ، و بلقطةٍ طويلةٍ لموريس في طريقه لمقابلة جيلبرت تنتهي بطرح ميلفيل مبكراً فكرة أن على المرء في هذا العالم أن يختار : إما أن يموت أو يكذب
، يقدم ميلفيل في فيلمه – كما سيعودنا لاحقاً – شخصياتٍ مفككةً ،
غامضةً ، قليلة الكلام ، منقسمة ، و عديمة الولاءات ظاهرياً ، بالرغم من أن الصورة
لا تبدو كذلك في عمقها ، يتناول ميلفيل من خلال هذه الشخصيات الحدود الهلامية
لمفهوم الولاء في عالم الجريمة ، و كيف يمكن تسويقه لدى شخصٍ تخلى في
الأساس عن المبادىء البديهية للشرف من خلال قيامه بإرتكاب جريمة ! ، يبدأ هنا رحلته
مع موضوعه المفضل عن الصداقة و الخيانة و الولاء و الذي طبع سينماه لاحقاً و أحدث بالغ الأثر على أعمال
واحدٍ من أشهر مريديه ، الصيني جون وو .
جمال النص برأيي أنه يحافظ على وترٍ دقيقٍ يربط ماضي الشخصيات بما يحدث لها
حالياً ، دون أن يفقد الإتصال بحاضرها (ما تمثله الحبكة القائمة) ، لذلك يبدو كل
فعلٍ مرتبطاً بشيءٍ في الماضي ، و في الوقت ذاته محركاً للحاضر ، و لذلك تكون
النتيجة الختامية لما نراه مزيجاً من فيلم الإثارة و دراميات الأسرار التي تحركها
علاقاتٌ راكدةٌ تحت السطح ، و الأذكى في الأمر كله أن النص لا يجعل الغموض هدفاً مجرداً
– و هي جزئيةٌ قد تمنحه قيمةً آنيةً لا تلبث أن تزول - و إنما يجعله مجرد وسيلةٍ
لتحريك الحدث ، الحدث أساساً غامض ، غامضٌ حتى من وجهة نظر الشخصيات ذاتها التي
تقرأه - مع كل خطوةٍ فيه - بطريقةٍ مختلفة ، نراه يذهب في إتجاه ، ثم يصبح في
الإتجاه المعاكس تماماً بمجرد معرفة الحقيقة ، سيليان اتصل بالمفتش سالينياري
بمجرد خروجه من منزل موريس ، يشكل المشاهد عاطفةً معينةً تجاه ذلك ، ثم ينعكس
المعنى و الشعور تماماً بمجرد معرفة الحقيقة ، يدفعك النص مع كل فعل لتشكيل عاطفةٍ
أو وجهة نظر أكثر من دفعك لطرح أسئلة ، تشاهد موريس يقتل جيلبرت فتعتقد
أن للأمر علاقةً بالماضي الذي كان موريس يتكلم عنه أو بدافع السرقة كما حصل ، تشاهد سيليان يتصل
بالشرطة فتتذكر انتقاد جيلبرت لعلاقة موريس بسيليان ، كل حدث نهيأ له بطريقةٍ معمولةٍ لا تجعله مثاراً
للاسئلة ، و النص يستغل هذا الإزدواج الشعوري ليجعل من العمل ككل قابلاً للإستكشاف
مع كل مشاهدة ، و يصبح من الصعب في ختام الفيلم تحديد طبيعة المشاعر المتشكلة تجاه
أي شخصيةٍ من شخصياته .
في العمق هناك سيليان (يؤديه جان بول بولمندو في ذروة نجوميته و بأداءٍ مثاليٍ جداً لهذه
الشخصية) ، يرغب سيليان ببدايةٍ جديدة ، الإنعتاق من عالم القبعات ، إشترى
منزلاً فخماً خارج المدينة ليتخلص من كل ذلك ، لعب الدورين معاً و أقرب صديقين في
حياته هما مجرمٌ و محقق شرطة !! ، حاول أن يحافظ على تلك الحقيقة فلم تسر الأمور
كما أراد لها ، يغوص ميلفيل في عالمٍ لا أصدقاء فيه ، سلسلةٌ لا تتوقف من اكتشاف
حقيقة الصداقات التي نشاهدها : موريس و جيلبرت مطلع الفيلم ، ثم موريس و سيليان ، ثم موريس و تيريز
، قبل أن نعود لموريس و سيليان مجدداً ، حدودٌ هلاميةُ جداً تفصل بين صداقة
كل ثنائيةٍ في الفيلم و بين غدرهم ببعضهم البعض .
و بالتأكيد هناك الكثير من ميلفيل ، يقدم الرجل هنا وجبةً دسمةً من الفيلم النوار ، ليس
فقط على مستوى الحكاية ، بل على صعيد التوظيف المثالي لعناصر الصورة بالطريقة
ذاتها التي اعتدناها في كلاسيكيات النوار الهوليوودية ، يستخدم الدلالات البصرية
البسيطة للأشياء من خلال عمل مكثف على العلاقة بين دواخل الشخصيات و الموسيقى
التصويرية و بناء اللقطة ، التي تتنوع هنا بذكاء مدروس بين طويلة أو قصيرة أو
متوسطة ، مضاءةً أو ضبابيةً أو منصّفة ، حتى التصوير عبر المرآة يقدمه
هنا بدلالته البسيطة للإنسان الذي يقوم بتقييم ذاته ، و بالطبع الكثير من العناصر
المادية التقليدية لفيلم النوار ، حيث الأزقة و الضوء النافذ و أعمدة الإنارة و
الضباب و المعاطف و القبعات ، و بالتأكيد لقطةُ محوريةٌ لا تنسى تدور فيها
الكاميرا مع الشخصيات أثناء مشهد التحقيق دون قطعٍ لأكثر من ثمان دقائق ، ميلفيل في
واحدةٍ من أجمل تجلياته .
0 التعليقات :
إرسال تعليق