كتب : مصطفى الباجوري
التقييم : 5/5
بطولة : هالوك بيلجنر ، ميليسا سوزين ، ديميت أكباج
إخراج : نوري بيلجي جيلان (2014)
ما يجعل " البيات الشتوي
" مختلفا قليلا عن باقي أفلام نوري جيلان هو أنه مُستلهم من قصص الكاتب الروسي أنطون تشيكوف؛ قصص لتشيكوف هي
مزيج غير عادي من البساطة والنفاذ والموضوعية والإثارة الذهنية والإيقاع الرائع
والنهايات الساخرة. وكما هو معروف لا يقدم تشيكوف رؤية أخلاقية معينة أو يدين
شخصية من شخصياته أو طبقة من الطبقات الاجتماعية، ولكنه يُعبر بقصة بسيطة في شكلها
وأحداثها، عن شخصياته بتفهم وعمق شديدين، ويقدمها كما لو كانت تعيش في تصوراتها
الخاصة، غير قادرة على التواصل الوجداني و الاجتماعي مع بعضها البعض، كل ذلك يُضفي
على أسلوبه حالة خاصة من العدمية ولكنها غير قاتمة أو سوداوية إنما تكتسب الحيوية
والإثارة من روح السخرية ومن الصراع والتفاعل بين المشاعر المحتدمة في دوامات
نفسية خلف الحدث الذي يبدو ساكنا مفتقرا إلى الطاقة والحركة في مظهره .
يحكي البيات الشتوي
قصة ثلاث شخصيات : زوج يدعى إيدين، ممثل مسرحي سابق ويدير حاليا فندقا في مكان منعزل في
منطقة الأناضول، وزوجة شابة تدعى نهال تعمل في مجال الجمعيات الخيرية، وأخت أربعينية تدعى نجلا انفصلت
مؤخرا عن زوجها وتقيم مع ايدين و نجلا . يبدأ الفيلم بداية بطيئة للغاية ومتأنية، قد تكون مملة
بعض الشيء ولكنها كانت مهمة لتوضيح الانعزال والمحاصرة التي تتعرض لها الشخصيات
وخلق حالة بصرية مُستغلة طبيعة منطقة الأناضول من الجبال والسهول الممتدة والطرق
الجبلية المتعرجة والمساحات الشاسعة من الفراغ والسكون واللون الأصفر المشوب بخضرة
خفيفة والفندق المبني داخل كهف في الجبل الذي يرتاده عدد قليل جدا من السائحين .
وسط السكون والرتابة
يقذف أحد الأطفال سيارة ايدين بالحجارة ، نكتشف أن الطفل من عائلة فقيرة مهددة بالطرد
من الأرض التي تعيش فيها والتي ترجع ملكيتها للزوج إيدين مما أثار غضب
وحنق الطفل ضد الرجل وسيارته ثم تدور محادثة ظريفة بين الزوج والزوجة والأخت تطرح
فيها "نجلا" نظرية فلسفية غريبة عن عدم معاقبة الشرير وتركه
لشعور الندم كي يخلصه من إثمه !
بعد تلك البداية
يعتمد الفيلم على الحوارات الطويلة بين الزوج والأخت من جهة والزوج والزوجة
من جهة أخرى ، وفي أغلب تلك الحوارات تكون الكاميرا ثابتة تقريبا . ينجح نوري جيلان
بعد أن خلق حالة العزلة البصرية التي تحيط بعائلة إيدين بأن يترك
الحوار ليقترب بنا إليهم، كأن الكاميرا أخذت لقطة عامة واسعة للشخصيات وحيدة
وصغيرة وسط الفراغ ثم أخذ الحوار يقوم بوظيفة حركة الكاميرا، يقترب متمهلا من
الشخصية والصورة التي بدت غائمة وصغيرة في البداية تصبح واضحة ودقيقة التفاصيل
شيئا فشيئا، بل يستمر الحوار في اكتشاف الشخصية وأدق تفاصيل حياتها حتى يصل إلى
عالمها الداخلي المشحون والمتوتر والحيوي، عالم من الصراعات النفسية والرغبات المدفونة
والآمال القديمة والشعور بالخيبة والفشل. قوة وحيوية وكشف وإثارة الحوار قد تغلبت
على احساس السكون الذي تعطيه الكاميرا للدرجة التي لا تكاد تشعر معها أن الكاميرا
ثابتة ولا تتحرك في الواقع.
المثير للتأمل أننا
نلاحظ في أفلام المكان الواحد باقتراب المخرج أو ابتعاده من لغة المسرح، قد ينساق
لمسرحة السينما أحيانا أو يحاول تقديم لغة خاصة بالسينما أحيانا أخرى. وفي" البيات الشتوي"
لا نشعر بالمسرحة فحسب ، بل لا نجد تلك الإشكالية من الأساس. فلم يحاول نوري جيلان أن
يتغلب على المكان المحدود للحدث بحركة الكاميرا ولا بالمونتاج ولا بتوجيه الممثلين
بعيدا عن الأداء المسرحي ولكنه وضع الكاميرا ووقف خلفها يشاهد مثلنا تاركا كل
المسؤولية على الحوار كي يصنع فيلما مثيرا وممتعا رغم مدته الطويلة التي تزيد عن
ثلاث ساعات .
إيدين هو مثال للمثقف
المتردد المليء بالمخاوف والتناقضات التي لا حصر لها بين الانعزال في فندق بعيد في
منطقة نائية، وبين إيجابية مُصطنعة عن طريق كتابة مقالات لجريدة محلية لا يقرؤها
أحد، بين نقده اللاذع لرجال الدين في مقالاته وبين عدم دخوله لمسجد في حياته على
الإطلاق، بين اقتناعه بأن زوجته تتعرض للنصب من المجموعة التي يشاركونها
الأعمال الخيرية، وبين تبرعه بمبلغ كبير لصالح هذه الجمعية وتردده في مراجعة أوراق
الجمعية، بين إعطائه الحرية لزوجته التي تصغره في السن إذا أردت الاستمرار معه أم
لا وبين كونه في داخله لا ينوي السماح لها بالابتعاد عنه، بين رغبته في تملك زوجته
وحياتها بكل ما تعنيه الكلمة (تملك) من معنى وبين رغبته في أن يظهر أمام نفسه وزوجته بمظهر
العادل والمثقف الذي يعطي زوجته إرادة الاختيار وحرية أن تحيا كما تريد.. بين أن
يقرر السفر والابتعاد إلى اسطنبول وبين عدم قدرته على تحقيق ذلك وفي كل مرة يستطيع
أن يجد التبرير والمنطق لكل أفعاله المتناقضة ويتوصل لتلفيق جديد ووهم آخر في
دائرة يبدو أنها لا تنتهي. رغم ذلك نحن كمشاهدين نتعاطف مع ايدين ، نتعاطف مع
تردده وحيرته وعجرفته أحيانا بل نتعاطف مع فشله وعجزه أمام الواقع الثقيل.
استخدام الصورة كان متوافقا
مع رؤية الفيلم في الغوص بعيدا في الماضي والمشاعر متجاوزا الحاضر والواقع الساكن
والطبيعة المنعزلة للأحداث والشخصيات. فمن ناحية ثبات الكاميرا وغلبة الحوار
ومكان الممثلين ووضعهم بالنسبة لبعض (نجلا كانت تجلس وراء إيدين في عمق الكادر في المشهد الطويل بينهما) كل ذلك يعطي الانطباع
بزيف الواقع الخارجي والتوجه للعوالم المخفية في أعماق النفس والشعور لاكتشاف
الحقيقة، وفي نفس الوقت الإضاءة الصفراء الداكنة وتفاصيل الديكور الدقيقة خلقت
حالة الدفء والحميمية و الاقتراب من عالم الشخصيات.. أي أن تفاصيل الصورة استطاعت
التعبير عن التناقض بين الوجود الخارجي الساكن والحقيقي لعالم إيدين الذي نراه
أمامنا وبين الزيف والخواء والانعزال والبناء النفسي المتهدم وراء هذا الوجود،
وهذا التناقض الذي تخلقه الصورة يعكس رغبة إيدين الشديدة في التمسك بعالمه الخاص
حتى وإن كان زائفا ومتوهما.
ينتمي الفيلم بالأساس للسينما الذهنية التي
تعتمد على الحوار لتحقيق الاندماج المطلوب مع الشخصيات والبيئة، وتوقف الزمن
وسيادة اللقطة المتوسطة في أغلب المشاهد الداخلية ساعد على توكيد هذا الشعور وأعطى
الفرصة لإعمال الذهن في الصورة ومكوناتها .. والفيلم من هذه الناحية (الذهنية)
أقرب ما يكون لعالم الرواية والأدب واستلهام تشيكوف تحديدا بكل ما
فيه من حيوية وإثارة نفسية هو السبب في انتشال الفيلم بعيدا عن الجمود والبرود
والمباشرة.
ينتهي الفيلم نهاية
ساخرة تتناسب مع أجواء تشيكوف أيضاً، حيث يقتنع إيدين كما نسمعه في حواره الداخلي بأن
رؤيته للعالم ولزوجته ولنفسه قد تغيرت بعد المناقشات والمكاشفات التي خاضها ولكنه
في حقيقة الأمر لم يتغير على الإطلاق كما يتبين من الحوار الظريف بينه وبين
صديقه سوافي والمدرس الذي يعمل مع زوجته في الأعمال الخيرية، وكذلك عندما يقرر
الرحيل إلى أسطنبول والابتعاد طوال فترة الشتاء لكنه لا يستطيع السفر ويعود إلى
البيت وزوجته مرة آخرى ويشرع في كتابة دراسة عن المسرح التركي الحديث وهو مشروع
قديم يحاول كتابته من فترة طويلة، السخرية هنا في اقتناعه الداخلي بالتغيير وفي
إدراكنا نحن كمشاهدين بأنه كما هو، لم يتغير، وكل ما فعله هو تبرير جديد لحياته
المُختبئة والخائفة.
في النهاية سوف
نجد السمات العامة لسينما نوري جيلان مثل السرد البطيء والتكوين البصري الجميل والكاميرا
التائهة فوق هضبة الأناضول التي تسجل اللقطات والأحداث كما هي في حقيقتها وتأمل في
اكتشاف عوالم أخرى متخفية وراء هذ السكون والصمت .. وفي "البيات الشتوي"
استلهم جيلان أجواء تشيكوف الساخرة واستخدم الحوار الكاشف المثير
للذهن كي ينقلنا من الوحدة والانعزال التي تحيط بشخصياته إلى الاقتراب منهم لدرجة
الحميمية والتعاطف معهم ومع ضعفهم وعجزهم في مواجهة الواقع الكئيب .
0 التعليقات :
إرسال تعليق