كتب : ياسر ريحاوي
التقييم : 4.5/5
بطولة : براد دوريف ، جون هيوستن
إخراج : جون هيوستن (1979)
لا أحاول أن أعرف ما
الذي سيعجب مليون شخص, فتحديد ما يعجبني صعب بما فيه الكفاية – جون هيوستن
جون هيوستن المعروف باقتباساته
الأدبية المميزة يقدم هنا اقتباساً مميزاً ومختلفاً بكل المقاييس, كوميديا سوداء
تدور أحداثها في الجنوب الأمريكي المعروف ببيئته الخصبة التي ألهمت العديد من
الفنانين بتناقضاتها المختلفة وأشباح حروب الماضي والتعصب الديني والفقر والعنصرية
والكبت الجنسي التي لا تفارقها.
هيزل موتس هو أحد الجنوبيين العائدين من الحرب لأرضهم الأم والذي
يحاول نشر وتأسيس دين خاص به, يتسكع في الشوارع ويتنقل من فندق رخيص لآخر بسيارته
البالية محاولاً إقناع العامة بما يبشر به, يصور هيوستن طريقة موتس في الدعوة بطريقة
جنونية ومضحكة في نفس الوقت, صراخه الدائم وكلماته المتوترة وانفعالاته الزائدة
تخفي وراءها طفلاً يعاني من شبح التعصب الديني الذي لاحقه في صغره على يد جده –
يؤدي دوره جون هيوستن نفسه – المختلف هنا أن ما يدعو له موتس هو نقيض الدين, هو
يدعو للحرية الكاملة في اتخاذ القرارات ويدعو لكنيسة من دون مسيح ,عناصر تشبه ما
دعت له الفلسفة الوجودية التي أكدت كاتبة الرواية تلميحاتها لها, لتنتج شخصية
فريدة جداً في مرضها وفي كوميديتها, رمزية لشبح الدين الذي سيبقى جاثماً فوق صدور
أهل الجنوب تصاحبها عبارات عنصرية لشخصية منفتحة تعيد الجنوب المتقدم إلى دوامته
مجدداً, براد دوريف في دور مذهل وفي شخصية معقدة جداً يبرع في المحافظة على الخط
الضيق والحرج بين الكوميديا والتراجيديا بإدارة هيوستن الذي يوجهه ببراعة طوال
الفيلم, الانعزال والوحدة والقسوة التي تميز الجنوب تعاني منها شخصية أخرى يصادفها
موتس وهي شاب في الثامنة عشر من عمره يدعى إيموري, هنا تصبح الكوميديا طاغية على
أسلوبية عرض الشخصية لتتحول مشاهدها لمجموعة من المواقف الهزلية مع بقاء موضوع
الكآبة والوحدة لشخص يحاول التواصل البسيط ليجد الرفض والاستهزاء دوماً, يصادف
موتس أيضاً ليلي وأبيها الداعية الأعمى, تتجلى هنا استغلالية الدين كوسيلة للربح
المادي والسيطرة على عقول الناس البسطاء, وتظهر لدى ليلي الرغبات الجنسية المكبوتة
والتي يشاركها فيها موتس في صورة مرض آخر ورثه منذ الطفولة, ربما تذكرنا ليلي
بشخصية بيبي دول الجنوبية الملولة الكسولة التي تسعى لإغواء من حولها في بيئة
جنوبية انعزالية مملة وظالمة دوماً للمرأة, يصور هيوستن أيضاً موتس كداعية فاشل
على الرغم من صدقه, حركاته الجنونية وأسلوبه المنفر يقابله أحد الدعاة الآخرين
بغناء وعزف يجذب له المتفرجين بسرعة ويكسبه النقود التي لا يسعى لشيء سواها, فيتضح
لنا فشل الدعوة الفكرية البحتة التي لا تحاول جذب الناس كجزء من أسلوبها, المرض
المتأصل في شخصية موتس يحتم نهاية قاسية غاية في الغرابة والمأساوية والمصيرية
الجنوبية السوداوية التي يبشر فيها الفيلم منذ بدايته.
التحكم والموازنة بين الكوميديا والتراجيديا والغرابة مع بقاء الفيلم
سلساً ممتعاً وغير متوقعاً يحسب لهيوستن دوماً, أسلوب تصويره غير مبالغ وسهل ويحقق
غايته الشعورية مع كل مشهد, قسوة الجنوب وجماله التراجيدي وأشباح الماضي نشعر بها
ونشاهدها بين الفنادق والبيوت الرخيصة, السيارات المهترئة, وأغضان الأشجار العارية
التي تضفي جواً قوطياً حزيناً, انعزالية الشخصيات وسط الشوارع الواسعة والرياح
العاصفة تضفي عذوبية تراجيدية تضاف لها خلفية موسيقية محلية محكمة في المحافظة على
الغرائبية الكوميدية والحزن العميق.
الفيلم مظلوم فعلاً بين أفلام هيوستن وبحاجة لإعادة استكشاف, أسلوبه
الغريب والمتنوع يضعه في مكانة مختلفة جداً عن أفلام الجنوب الأخرى ويجعله قادراً
على استيعاب تناقضات بيئته وتقديمها بصورة متماسكة فريدة, اللامساومة في الأسلوب
والتطرف في القسوة ضروريتين في مثل هذه النوعية من القصص وشجاعة هيوستن وثقته ومحاولته
التجريب لم تكافئ من قبل الجمهور حيث فشل الفيلم في شباك التذاكر, ولكنه كما
العديد من الأعمال العظيمة التي تسبق زمنها يكرم ولو بعد حين.
0 التعليقات :
إرسال تعليق