كتب : فراس محمد
التقييم : 4.5/5
إخراج : أسامه محمد ، وئام سيماف بدرخان (2014)
بلغة سينمائية غير معهودة في السينما السورية والعربية بشكل عام , أسامة محمد المخرج
السوري المقيم حاليا في فرنسا يدخل قاعة العرض في كان على هامش المهرجان , بذاتية
لا تقل خصوصية عن اي من افلامه الاخرى , بصورة تستطيع إن أرادت ان تكون كالمخرز في
عين المُشاهد , بشريط صوت يستطيع إن اراد ان يحفر بضجيج هادر في ذاكرة المتلقي ,
المتلقي في هذا الفلم لم يكن المُشاهد فحسب ، بل أسامة ايضا كان منهم
, متلقي راوي , لحياة تلفظ كل الانفاس في مدينة حمص , المدينة التي شهدت خلال
الاحداث الحاصلة في سوريا الكم الاكبر من التحولات , الكم الاخطر من المنعطفات ,
الحياة في هذه المدينة كان فيها من الصور ما ملئ موقع متل اليوتيوب الذي تحول بين
يدي اسامة محمد لبحر من المواد الفلمية , استطاع بتوليفة عبقرية ان
يبتكر آلية خاصة للسرد , في المدينة التي كانت تحتضر بصوت عالي , النفس الاخير كان
على شكل فتاة وكاميرا محمولة , سيماف بدرخان الفتاة الكردية التي كانت عيني أسامة محمد على
انقاض حمص .
التواصل الحادث بين سيماف وأسامة كان على شكل عصف ذهني غير مجرد من اي شيء , من اي اعتبار
, انساني سياسي عسكري فكري حسي , تواصل شبيه بالحاصل بين الدماغ والعين في الجسد
الواحد , رغم بُعد المسافة لم يكن لوسائل التواصل فائدة أكبر مما أنتجته في هذا
الفلم . التواصل لم يكن الكترونيا بقدر ما كان اجباريا ككل شيء في هذه المدينة ,
التي تحول كل تفصيل فيها ضمن الكادر لذو معنى , مدينة تنهار , قطط مشوهة , أحصنة
نافقة , انفجارات , دماء ، مترافق بصيغة بصرية مشوهة لا تقل تشوها عما نُشاهده في
صورها انسانيا , الدقة التي عادة تكون عليها مقاطع اليوتيوب كانت عاملا مساعدا لأسامة محمد على
نقل ضبابية المشهد و وحشيته , التراكيب البصرية والسمعية المستخدمة لا تقل تشويشا
عما يحصل في هذه المدينة , الحياة في هذا الفلم تظهر بين فترة واخرى بشكل غريب
يعطي دفق صادم من المشاعر , او الحسرة ربما , استخدام تقنية التضاد في المونتاج
يصنع نوعا غريبا هو الآخر من الكوميديا السوداء المُبكية , كل شيء في هذا الفلم
يُلمح لصلب فكري هائل يتمتع به مخرجه أسامة , وشغف لحمل الكاميرا تمتعت به (عيناه) سيماف ، وبدأت
المسألة في بعض الفترات تتحول لمعضلة اخلاقية , ايهما اهم , الفلم أم الحياة ,
ايهما اكثر جدوى , الكاميرا التي تؤرشف ام العين التي تلتقط صور مهددة بالموت ,
ايهما أكثر قيمة , سيماف أم كاميرتها , وبعد فاصل من اشارات الاستفهام , اسامة يزاوج
بين كل تلك المتناقضات , يترك للكاميرا ولسيماف ان تقرر , كما يترك اي مخرج لعينيه في موقع التصوير ان
تحسم الخيارات .
الفلم الذي لاقى اصداء مهمة اثناء وما بعد العرض في كان , لم يكن
يخاطب العاطفة فحسب , بل حاول أسامة ان يخاطب الضمير , ولو كانت وسيلة مخاطبته صارخة ,
الكاميرا تتحول لسكين بالنسبة للمُشاهد , والمخرج يتحول لجزار فيها , المُشاهد
ضحية , الذُرى تراها في قدم قطة مقطوعة , في جملة تسبقها (ابي يبكي كالقطط)
, في قطة اخرى تقع من مبنى عالي على ارض متروكة للحرب , لا تموت, تهرب , ربما اختصرت كل شيء , او بعض الشيء عبرت عنه في
لقطة اخرى صنبور ماء ينقط على انقاض , ربما سؤال الفلم الاهم هو ان العين التي
شاهدنا فيها هذا الفلم ، هل كانت عينان ارادت ان تلتقط الزوايا التي ارادت , ام انها
كانت محكومة بزوايا خاصة من الصعب ان تخرج منها , وإن حصل وخرجت بحياء (كان نادراً
في الفلم ولكنه مزعج) ما كان سيحدث ؟ ، هل سيقع جزءا من خطاب الضمير الذي اراد اسامة إلقاءه
بطريقة شارلي شابلن بديكتاتوره العظيم , أم انه سيخفف نزيف الدماء ,
ربما ستختفي , الجواب لم يرغب أسامة في الوصول له او حتى طرحه كعلامة استفهام , الفلم لا
يسمح لك خلال فترة مشاهدته بطرح الأسئلة , ولكن بعد الخروج من حالة الثمل التي
يسببها قد تبرز بعض الأسئلة على السطح , ما كان سيحدث لو شاهد ذات المدينة بعين
أخرى , بوجهة نظر أخرى ؟
بالمجمل الفلم صفعة او شوك كهربائي مستمر لمدة ساعة ونصف ونيف , أسامة رفض ان
يستخدم ماكيير , رفض حتى ان يغطي العين , شريط الصوت العبقري الذي من الممكن
اعتباره افضل شريط صوت تم تقديمه في السينما العربية عامة كان عينا آخرى على حمص ,
خصوصية المدينة كانت بيضة قبانه , لولا خصوصيتها ما كان فلم , ما كان بهذا الألم ,
ربما ما كان حدث ، ما اعرفه بعد الغوص في طينه , اني خرجت مرهق ومشوش , مصدوم
ومطعون انسانيا , الفلم نال مني كل ما اراد الحصول عليه , بسخاء , وهو من تلك
النوعية التي تزحف وتتسلق من القمة , وتضعك في الخانات التي لا ترغب في التواجد
بها , تضعك على الحدود الانسانية التي لطالما ادعيت وجودك ضمنها , تلقيك في مستنقع
انساني قذر لا تستطيع الخروج منه طاهرا روحيا وفكريا وعاطفيا , ولكنه فلم تطهيري ,
بكل المعاني , حتى التقني منه , الفلم يكسر كل ما وُضع في السينما من قواعد , يرميها
في اقرب مكب نفايات , ويستعيض عنها بالشكل الذي يزاوج ما بين المدينة المهددة
بالانقراض , والتقنية السينمائية التي يجب ألا تكون أساس صنع الفلم , يزاوج بين
مدينة مشوهة ومقطع يوتيوب مشوه , وضمير مشوه , وحياة مشوهة , وقطط مشوهة , وأنفاس
منقطعة ، عبر حديث على الفايسبوك , بين شخصين ما بينهما أقل بكثير من أن يكون محط
أهتمام , وما جمعهما أكبر بكثير من مجرد فلم . تحول فيها الحديث لحقيقة للمرة
الاولى أمام الكاميرا , لا يفصل بين الحقيقة والموت وما خلف الكاميرا إلا العدسة .
0 التعليقات :
إرسال تعليق