كتب : عماد العذري
التقييم : 4/5
بطولة : غاري كوبر , إنغريد بيرغمان
إخراج : سام وود (1943)
يقتبس
سام وود هنا رواية الأديب الأمريكي الأشهر إرنيست هيمنغواي
التي حملت الإسم ذاته في عملٍ سينمائيٍ رشح عام 1943 لتسع جوائز أوسكار , تسرد علينا
قصة روبرت جوردان مقاتل أمريكي محنك تحت لواء الجمهوريين الأسبان ,
إبان الحرب الأهلية الأسبانية , يكلف بمهمة تفجير جسر لعبور جنود و معدات الملكيين
إلى الجزء الجنوبي من البلاد , ينضم إلى رجال الجمهورية المقاومين في منطقة وجود الجسر
, و يشكل مجموعة من العلاقات المختلفة معهم : يقع في حب ماريا القروية الشابة
التي عوملت بقسوةٍ شديدة من قبل جنود الملكية قبل أن تفر من أسرها , بابلو السكير الجبان
الذي كان يوماً ما زعيم هذه المجموعة , و الذي يزعجه الإهتمام الذي تبديه ماريا بجوردان , فيبقى
مصراً على إفشال مهمة جوردان , و بيلار زوجة بابلو الشجاعة و التي تسيطر على كل شي في المجموعة و
تساعد جوردان في القيام بمهمته , ضمن أشخاص آخرين يحملون مشاعر مختلفة
تجاه الحياة و المقاومة و الأمل .
(لمن تقرع الأجراس ؟) رواية
همنغواي الشهيرة التي نالت جائزة بوليتزر بين يدي مخرج
A Night at the Opera و The Pride of the Yankees سام وود , كما
الرواية يتجنب سام وود التطرق للمقاومة من وجهة نظر سياسية , هو لا يعرض أفكار أي من
الطرفين , بل يجعلنا منذ لحظات الفيلم الأولى في صف الجمهوريين دون الدخول في تفاصيل
ما يريدونه بمقاومتهم , هو يركز فحسب – وهنا تكمن قيمة الفيلم الحقيقية - على الدافع
الذي يدفع أناساً مختلفي الأهواء و الأصول و التوجهات إلى التضحية بأرواحهم التي تنتظر
من يقطفها بين لحظةٍ و أخرى مقابل شيء يؤمنون به , و يؤمنون بأنه يستحق أن نضحي لأجله .
في
افتتاحيته المعمولة تجسيدٌ بديع لشخصيات العمل الأدبي ، و ترسيمٌ مبدأي مهم لما سنشاهده
فيها لاحقاً : أجنبي يقاتل في بلدٍ ليس بلده من أجل شيءٍ يؤمن به , و لحظةٌ تضطر المرء
للقتل رغم أنه يدرك بأنه لن ينسى وجه الرجل الذي قتله طوال حياته , هناك قناعة لدى
جوردان بأن قتله لزميله المفجر عندما أصيب في المطاردة هو جريمة قتل ضرورية , يقول
جوردان (هذه فترة حرب و لن نلحق الأذى بأحد بعد الحرب) , بينما ينصح
أنسلمو في ذروة المعركة (فكر بالهدف فقط عندما تطلق النار
, و لا تفكر بالناس) , جملة توضح المأساة الدائمة للحرب في كل زمان و مكان
: التفكير بالهدف و عدم التفكير بالناس , نفس الجزئية التي تحيرنا طويلاً في فهم شخصية
بابلو التي إنقلبت من ذروة الصمود و النضال إلى ذروة الخنوع و الإستكانة
, عندما نرى مشهداً في بداية الثلث الثالث للفيلم تقص فيه بيلار حكاية نضال زوجها بابلو , كيف فجر
مبنى الشرطة ليحرر أصدقاءه , و كيف أعدم رجال الشرطة بدم بارد , و كيف قتل المحافظ و دون
فوستينو و دون غاييرمو بشراسة و دموية , قبل أن يطلق رجاله المسعورين ليقتلوا
من تبقوا في القصر , هذا التاريخ هو ما يحاول بابلو الهروب منه , و
هو ما سبب ذلك الإنهيار في قناعات الرجل , يقول بابلو (أتعتقد أنني معجب بالطريقة
التي قتلنا بها الناس ؟ أتمنى لو بإستطاعتي إرجاعهم للحياة , فعلاً لتمنيت إرجاعهم
للحياة) , و جزء من سحر شخصية بابلو هو ذلك التكثيف السلبي الذي يصر عليه وود تجاه شخصيته
بطريقة يمنِّي بها مشاهده بإنقلاب إيجابي سيحدث لها في لحظات الذروة , لكن هذا لا يحدث
, بابلو حتى في لحظات عودته لطريق المقاومة يبقى إنساناً منكسراً
و متناقضاً و غير مؤتمن الجانب , جزئية تتجلى عندما يقتل 3 رجال ساندوه في معاركه من
أجل أن يحصل على أحصنة تكفيه و رجاله .
شخصية
بابلو (التي يقدمها ببراعة آكيم تاميروف في أداءٍ
منحه جائزة غولدن غلوب و ترشيحاً للأوسكار) مثيرةٌ لتساؤلاتٍ عدة بسبب أفكارها , بابلو يريد (الخير و الطمأنينة)
لرجاله , لديه وجهة نظر غريبة (لا أحد يقاتل حيث يعيش) لذلك يرى بأنه من المريح للجميع ألا يقاتلوا
لأنه يرى في تصرفٍ كهذا نوعاً من الغباء , بابلو لا يفكر في وجهة نظره كثيراً لأنه مقتنع بها فيقول لزوجته
(قد تظنيني جباناً , لكنني لست غبياً) , لكنه يتناسى أن الخير و
الطمأنينة الذي يتحدث عنها ليست دائمة , طالما أن عدوه يتربص به الدوائر , مقتنع بأن
لا أحد يقاتل حيث يعيش , و ينسى أنه يعيش أصلاً في كهف , مدمناً على الشراب , مكروهاً
من زوجته , و محتقراً من رجاله , و لا يجد من يفهمه سوى حصانه , رجلٌ أعمته الراحة
التي رأى بأنه ينعم بها عن رؤية حقيقة أنه في الواقع (لا شيء) , و حتى عودته
للإنضمام إليهم نابعةٌ في الواقع من حقيقة أنه وجد نفسه وحيداً و منبوذاً و لا يجد
من يحكمه , فعاد بثلاثة رجال أخبرهم بأنه زعيم المجموعة و أن الجميع هنا تحت إمرته
من أجل أن يحفظ لكرامته بعضاً من بريقها .
بالمقابل
من بابلو تأتي شخصية زوجته بيلار (التي تؤديها اليونانية كاتينا باكسيناو
في أداءٍ منحها جائزة أوسكار) , بيلار إمرأةٌ ليس لديها ما تخسره , عجوز غجرية بشعة
المظهر , تستمد جزءاً من جلدها و قوتها من هذه الحقيقة , تقول بيلار (بإستطاعتي أن أكون رجلاً
جيداً , و لكنني إمرأة .. و بشعة , و رغم ذلك أحبني الكثير من الرجال , أليس ذلك غريباً
؟ أنا بشعة , و لكن العواطف القوية تجعل من الرجال عمياناً , يجدك جميلةً , و في يومٍ
من الأيام و من دون سبب وجيه يجدك بشعة كما أنت عليه , ويكف عن العمى , تشعرين ببشاعتك
كما يراها رجلك , فتتخلين عندها عن رجلك و عن هذا الشعور , و في يوم من الأيام ينمو
هذا الشعور الأحمق أنك جميلةٌ في داخلك , ثم يأتي رجلٌ آخر و يجدك جميلة , فيبدأ كل
شيءٍ من جديد) , و رغم ذلك فليست هذه الجزئية هي التي تدفعها لتقاوم , بيلار تقاوم لأنها
مؤمنةٌ بما تفعل , فلن يضيف لها الأمر شيئاً وهي الغجرية العجوز البشعة , و لكنه بالمقابل
لن يسلبها شيئاً طالما ليس لديها ما تخسره , بيلار تمثل النمط الخالص
الصرف من المقاومين , أولئك الذين لا يفكرون بما سيخسرونه , لا يقاتلون من أجل العائلة
أو الحب أو المستقبل , بل يقاتلون لأنهم رأوا وضعاً خاطئاً و عليهم تصحيحه حتى و أن
لم يكن أثر ذلك سينعكس على حياتهم بعد ذلك , فيصنعونه من أجل الأجيال القادمة ..
في الروح
الداخلية للفيلم هناك قصة حب بين ماريا و جوردان , ماريا فتاة قروية بسيطة عاشت أسوأ ما يمكن أن تعيشه فتاةٌ في التاسعة
عشر , قتل أبوها و أمها أمام عينيها , ثم أغتصبت , إسودت الدنيا في عينيها , لكنها
لم تسرق منها بريق الأمل الذي يشع منها , تتفجر مشاعرها تجاه أمريكي وسيم يناضل في
بلادها من أجل ذات القضية التي قتل من أجلها والدها , أمرٌ لا يحدث من طرفين , روبرت جوردان روض
عاطفته من أجل نضاله , سيعيش من أجل الحرية , مع الجمهورية ضد الملكية الأسبانية ,
و رغم أن رقة الفتاة و جمالها يأسران إهتمامه لكنه يقاوم كثيراً ما يحدث دون أن يصدها
, علاقةٌ ينبع توترها في إهتزاز منطقيتها و هو شيء آخذه بشدة على سام وود , ماريا تقع في حب
جوردان منذ النظرة الأولى , ينهار جدار المشاعر المكبوتة الذي بنته
عقب ما حدث لها , هذه المشاعر الجارفة قاومها جوردان بشدة دون أن يمنع
نفسه من رؤية الجمال و الطيبة و الإخلاص الذي تحمله الفتاة له , مع ذلك لا يمسك سام وود
بإيقاع العلاقة فيفلت منه في أكثر من مناسبة بالرغم من بعض اللحظات العظيمة التي
تجمعهما , يستفيد طبعاً من أداء متوازن هاديء يشعرك بكل ما يمر به دون كلمة واحدة من
غاري كوبر , و أداء رقيق و مؤثر و سريع الوصول من إنغريد بيرغمان , لطالما
فكرت بالسبب الذي جعل الأكاديمية تتجاهل أداء بيرغمان الصلب في العام ذاته في تحفة
ماكيل كورتيز العظيمة Casablanca لصالح منحها ترشيحاً عن هذا الفيلم , قوة أداء بيرغمان هنا
تكمن في كفاحها العسير و المستمر في كل مشهد تظهر فيه لجلب أكبر قدر ممكن من المصداقية
لشخصيتها المفرطة في الإندفاع العاطفي لدرجة أنها تسهل إلى حد كبير عملية إقتناعنا
بأداء كوبر أيضاً الذي أجبرته هذه الصبية المندفعة عاطفياً تجاهه بأن تقنعه أن يحبها
, هي هنا تقف في وجه الإيقاع المترنح للعلاقة الذي لم يخدمه إخراج سام وود و نص ديدلي نيكولز كما
يستحق ، عندما تتأمل قدرة بيرغمان على جعل شخصيتها المفتقرة للمنطق بخصوص إنجرافها العاطفي
مقنعةً و مؤثرة مضفيةً عليها كماً من الرقة و الرومانسية و الضياع و التشويش أيضاً
, تدرك قوة أداءها الحقيقية .
و
بالرغم مما يمكن قوله حول العلاقة المضطربة بين إيقاع السرد و عمق الشخصيات و مدى
أثر ذلك على نتيجة سام وود الختامية ، إلا أن الرجل بالمقابل يمنح لكل عنصر فني في
العمل أهميته كاملةً , تصوير راي راناهان يعلق في الذاكرة , مسحة الإحمرار الطفيف التي يكسو
بها وجوه أبطاله يجعله تباينه مع ألوان عيونهم أشبه بلوحة تشكيلية , راناها في
إطار ذلك لا يعتمد كثيراً على اللقطات الواسعة (المعتادة في الأفلام الملحمية) بل يكثف
عمله على اللقطات المتوسطة و الكلوز آب في معظم مفاصل الفيلم ، كل كلوز آب على وجه إنغريد بيرغمان هو شيء
للذكرى في هذا الفيلم .
فيلم
سام وود - كما الرواية - فيلم مهم عن الحب و الحرب : كيف نخاف على
راحة بالٍ غير موجودة ؟ , كيف نصمد رغم إدراكنا بمصير ما نفعله ؟ , كيف نحب فيها ؟
, و كيف نكره ؟ , لأجل من نقاتل ؟ , من يستحق تضحيتنا ؟ , و كيف ننقسم على أنفسنا و
نتناقض عندما يكون المقابل هو حياتنا ؟
0 التعليقات :
إرسال تعليق