كتب : خالد إبراهيم
التقييم : 4.5/5
بطولة : كلود ليدو ، نيكول
لادميرال
إخراج : روبير بريسون (1950)
"الهدف ليس أن تُخْرج
شخص ما ، الهدف أن تُخْرج نفسك" *
حاول
تطبيق نظريته الفنية في The Ladies of the Bois de
Boulogne ، لكنه اعتبره نفسه هُزم ،
"لا يمكن تغيير طبيعة الممثل ، لا يمكن الرجوع إلى الخلف قبل أن يصبح ممثل" ،
التمثيل يعطي للمشاهد شيئاً ليقلده بينما اللاتمثيل يمنحه شيئاً ليكتشفه لذا قد
يبدو النهج محيراً لمحبي الاستقرار والإنتماء ، بريسون يقول أنه يؤمن
بالعفوية ، لا يقوم بإحضار شيء جديد لموقع التصوير ، لكن المتابع لأفلام الفرنسي
يدرك كيف أن الرجل شديد الدقة ، بيرسون لا يعرف ما الذي سيفعله في اليوم التالي ، لكننا نعرف
أنه عند قدوم اليوم التالي هو يعرف جيداً ما عليه فعله ، "عندما لا تعرف ما تفعله ،
وما تفعله يكون هو الأفضل .. هذا هو الإلهام".
عندما
قرر تحويل رواية جورج برينانوس إلى فيلم ، كان قد عزم الأمر على عدم الاستعانة
بممثلين محترفين في فيلمه الجديد ، بريسون لم يخترع الفكرة ، فقد سبقه رينوار و روسيليني
وغيرهم ، لكن بريسون أخذ التحدي إلى أقصى اتجاه ممكن ، المعتاد عند المخرجين
الذين يلجئون إلى الهواة والممثلين غير المحترفين هو البعد عن أخذ لقطات مقربة
لأوجه الشخصيات ، فيلم بريسون يستعين بعدد هائل من اللقطات المقربة جداً لأوجه شخصياته
لاسيما للشخصية الرئيسة (القس) ، بريسون يمتلك عقلية رسام ، لكن الرسام عندما يصبح مخرج
عليه أن ينفذ المستحيل ، الرسام قد يُكمل لوحته من خياله ووجه من يرسمه بإنطباعه
أو رؤيته الذاتية التخيلية ، لكن المخرج الرسام عليه أن يجعل من الكاميرا عينه ،
تنفيذ ذلك بنجاح – دون مساومة أو تنازل – عمل لا يمكن إنجازه بالكامل في الغالب ،
لكن لكل قاعدة استثناءاتها ، "الأشياء التي نجدها مصادفة .. يا للقوة التي تمتلكها تلك الأشياء !
إنتاج الشعور يتحدد أثر مقاومة الشعور".
الاختبار
الروحي الذي يمر به القس والمشاهد معه هو اختبار صعب ، بريسون – كعادته – لا
يستخدم ما يغريك بأن تحب أبطاله لكنك تجد نفسك – في نهاية الأمر – متورطاً بشدة ،
المنهج التجريدي الذي يتبعه بالبعد عن وسائل التعبير التقليدية وتمرده على السينما
من الخارج وليس من الداخل ، جعله أكثر كفاءة على إثارة المشاعر بصورة أشمل وأكثر
عمقاً ، وجعل صورته قادرة على البقاء في عقل و قلب المشاهد للأبد .
قس
شاب يُكلف بالذهاب إلى بلدة ريفية لرعاية أبرشيتها ، القس يسير على حمية تقشفية
مكونة من الخبز المنقوع في النبيذ ، منذ البداية نجد الراهب خلف قضبان السور
الحديدية للأبرشية ، بينما الرجل والمرأة خارج السور انزعجا لوجوده بينما يقبلان
بعضهما فتركا المكان ، القس مسجون داخل نفسه ، كما أنه يبدو كالمتطفل على القرية ،
هذا يُرجح أن العواقب ستكون وخيمة ، وقد كانت .
يذهب القس لمواساة الكونتيسة التي فقدت ابنها ،
وفقدت معه إيمانها بالرب ، يدور بينهما حوار عن الإيمان شديد الجمال كتابة و تنفيذاً
، يعود للكونتيسة إيمانها لكنها تموت في اليوم التالي .
"الكونتيسة : الحب أقوى
من الموت ، حتى كتبك المقدسة تقول هذا !
القس : نحن لا نخترع
الحب ، فلديه قوانينه و نظامه .
الكونتيسة : الرب هو
سيده !
القس : الرب ليس
سيداً للحب ، الرب هو الحب بذاته ، إن رغبتي في الحب ، فلا تضعي نفسك خارج نطاقه"
بنت
الكونتيسة تنشر الشائعات حول القس ، تتدهور صحة القس و يكتشف إصابته بسرطان المعدة
، يموت لدى زميل سابق بينما يتمتم كلماته الأخيرة "وما المهم ؟ فالنعمة تعم كل
شيء"
استخدم
بريسون نوعين من القطع في فيلمه ، ذوبان المشهد السابق في
المشهد اللاحق ، والفاصل الأسود الطويل ، ساعده القطع على تنظيم الإيقاع وعدم
إرباك المشاهد ، يمكننا أن نتلمس أسلوب المخرج السامي المتقشف كبطله : استخدامه
للموسيقى بصورة ستقل تدريجياً في الأفلام اللاحقة ، ولعه بالأيدي ، أيدي تعبر أكثر
من باقي الجسد ، فالأيدي عند بريسون لاتزال تعيش في اللاوعي والفطرة ، ولم تلوث بالوعي أو
التقليد .
الدراجات
البخارية كمرادف للشر من خصائص سينما بريسون ، لابد من سماع صوت الدراجات في أفلامه و إن غابت
صورتها ، الأصوات – بصورة عامة – شديدة الأهمية لدي المخرج العظيم ، وعنايته في
استخدام الصوت – صوت الخطوات مثلاً – لا تقل جهداً عن عنايته بالصورة ، يعتقد بريسون
أنه متى يمكن للصوت أن يحل محل الصورة ، فعلى المخرج أن يتخلى عن الصورة أو يجعلها
محايدة ، فالعين تذهب إلى الظاهر بينما الأذن تذهب إلى الباطن .
خلفية
(القس) لا نعرفها ، لا يهتم بريسون بأن يعطينا
تصريحاً أو تلميحاً ، لكنها شخصية بريئة ، لا نعرف كذلك إن كانت الشخصية بريئة
بالفطرة أم بالاختيار ، وإن كانت الأولى أرجح ، قضبان السور الحديدي للأبرشية تعكس
حالة الأسر التي يعيشها ، تفتح الباب للجدل حول حرية الاختيار في الحياة ، ظن أهل
القرية أن القس – كما يُشاع – سكير ، ودعم اعتقادهم وهن القس وقلة تركيزه
، يعرف المشاهد أن القس معتل الجسد والروح ، فالفيلم لا يقف عن الحدود الظاهرية
للجسد المحدود ، بل يطرح أسئلته حول إن كانت الروح محدودة كذلك .
"المخرج الذي يتبع
الموضة ويضع في فيلمه القليل من كل شيء ، مثل الرسام الذي يعمل بألوان كثيرة ،
اجعل الأشياء تبدو كما لو أنها تريد أن تكون هناك"
بريسون
يقول بأنه ليس بالضرورة لكونه متدين أن يصبح فيلمه كذلك ، بريسون فيما
بعد سيصرح بأنه ملحد مسيحي ، في سينما المؤمنين يكون الفيلم صلاة وإن انكروا ذلك ،
القس في الفيلم يوافق الكونتيسة على ما يمكن اعتباره تجديفاً ، يراه تجديفاً محموداً
وضروري للوصول إلى إيمان سليم ، طبيب القرية الملحد الذي يموت ويصدم خبر موته القس
، القس وقت ألمه من المرض لم يستطع الصلاة ، ظن أن الرب قد تخلى عنه ، هل عجز عن
الصلاة لظنه أن الرب تخلى عنه أم أن عجزه عن الصلاة هو الذي جعله يظن ذلك ؟ وقت
الألم والمرض يكون من العبث التحديد .
في
نهاية الفيلم يذهب القس إلى صديق سابق ، يتحدث الصديق عن حياته وتقلباتها ، كاميرا
بريسون لم تترك القس الصامت لمدة ثلاث دقائق كاملة ، يمكننا أن
ندرك ألم القس ونتعاطف معه ، بريسون يريد بالمشهد الطويل أن يصبح ألم القس هو ألمنا جميعاً
، الشيء الجميل – رغم صرامة بريسون فيما يخص التمثيل – أن أداء كلود لادو كقس شاب
اعتبره البعض من أعظم الأداءات التمثيلية التي عرفتها السينما .
سكورسيزي
يقول أن شخصيته العظيمة (سواق التاكسي) قد تم استلهامها من قس بريسون ، فالشخصيتان
يجمعهما الإنغماس في الذات والسجن الخارجي والداخلي ، سطر سكورسيزي
المفضل من النص كان "الرب ليس مُعذِّباً" ، بول شرايدر كاتب Taxi
Driver واحد من محبي بريسون
المُخلِصين ، و صاحب كتاب مهم عن الثلاثة الكبار المتسامين (دراير – أوزو – بريسون) ،
بينما الناقد روجر إيبرت وجد نفسه في الساعة الأخيرة من الفيلم مسحوراً أكثر مما
يكون عليه الحال عند مشاهدة فيلم إثارة ، شخصياً وجدت تشابه بين وجه القس الشاحب
وملابسه السوداء في تحفة بريسون ، وبين وجه الموت الشاحب و ملابسه السوداء في خاتم بيرجمان السابع .
"هناك أشياء كثيرة لا
تستطع العين رؤيتها ، لكن الكاميرا ترى كل شيء ، نحن مهرة زيادة عن اللازم
ومهارتنا تخوننا ، يجب علينا أن نثق – في الغالب – بمشاعرنا والاحساس الذي لم يكذب
علينا أبداً ، فذكاؤنا يعكر صفو رؤيتنا السليمة للأشياء"
(*)
ملحوظة : أغلب ما بين علامات التنصيص هي اقتباسات من كتاب (ملاحظات عن التصوير
السينمائي) ، جمع لملاحظات بريسون .
0 التعليقات :
إرسال تعليق