كتب : محمد المصري
التقييم : 5/5
بطولة : يانوش ديرجي ، إيريكا بوك
إخراج : بيلا تار (2011)
يبدأ المخرج المجري بيلا تار فيلمه السينمائي الأخير ، والذي أعلن بعده اعتزال
الصناعة لأنه (قال كل ما يريد قوله) ، بحكايةٍ نَسمعها على شاشةٍ سوداء ، عن
يوم في شتاء تورينو عام 1898 ، حين صادف فريدريك نيتشه أثناء
مروره في الطريق لسائق عَربة يَضرب حصانه بقسوة لأنه لا يرغب في التحرُّك ، يدخل نيتشه
إلى المشهد ، يُمْسِك برأسِ الحصان بين يديه ، ويَبكي بشدَّة ، قبل أن يأخذه أحد
جيرانه إلى منزله ، (حيث قضى يومين صامتاً وهادئاً( ، وحين
نطق أخيراً قال جملة واحدة : "أمي ، أنا أحمق" ، قبل أن يمضي 10 سنوات أخرى في حياته في
سكونٍ تام ، "أما الحصان ، فلم نعرف عنه شيئاً".
من تلك الافتتاحية ، الساحرة جداً في الحقيقة ، نظراً لقيمة الحكاية ،
ينتقل "بيلا تار" للأيام الستة ،
التي لا نَعلم إن كانت تالية للحكاية أم لا ، حيث السائق يَعود بالحصانِ إلى
مَنزله ، وسط عاصفة شديدة تجتاح عالمه ، وخلال ساعتين ونصف هم زَمَن الفيلم ،
نتابع "نهاية العالم" ببطءٍ خلال تلك الأيام الستة.
قيمة الفيلم الحقيقية تأتي من قدرة بيلا تار على توريط المُشاهد في هذا الثقل الذي يزداد كلما مَرّ وَقت العمل ، على الرغم من التجريد الشديد في الحكاية ، فعلياً لا شيء يَحْدُث ، الرجل وابنته يقومون بتفاصيلٍ يومية رَتيبة ، وهي تتكرر كل يوم ، باختلافاتٍ طَفيفة جداً ، ولكن رغم ذلك يتسرَّب لك الشعور بالثّقَل ، بأن العالم فعلاً على وَشَكِ الانتهاء ، حين يُغير مَنظور اللقطة في كل مَشهد يقومون فيه بأكل البطاطا ، حين يُتابع حركتهم البطيئة في مُحيط الصورة ، وحين يُثَبّت تلك الصورة على شيءٍ ثابت لمدَّة طَويلة ، لا أملك توصيفاً مُحدداً لقيمة كل هذا ، ولكنه شيء يتعلَّق بشعورِ المُتلقي، و بيلا تار واحد من أعظم مخرجي السينما في التعامل مع "لا وعي" المُشاهد ، إن كان الوصف صحيحاً ، أو بصورة أكثر مُباشرة : تَرسيب شعور مُعيَّن من خلال الصورة حتى لو لم يكن يحدث عليها حدث مُعيَّن.
القيمة الأخرى لهذا "الثقل" ، والنهاية الرتيبة في العالم ، هي في التفاصيل الماديَّة التي تَفْتُر داخل الفيلم ببطءٍ ، حين يبدأ هَبوب العاصفة في اليومِ الأول ، ويرفض الحصان أن يتحرَّك في اليومِ الثاني ، قبل أن يرفض الأكل أصلاً في اليومِ الثالث ، يبدو وكأنه مُشارك لـ"نيتشه" في شعوره بثقل العالم ، في اليوم الرابع يَجِفُّ بئر الماء ويَترك الرجل وابنته بَيتهم من أجلِ أرضٍ أخرى ، ولكن في اليومِ الخامس يَنْطَفِئ النُّور وتَعمُّ الظلمة ، وفي اليومِ السادس ، المُمَثَّل بلقطة ثابتة ختامية في نهاية الفيلم ، "يُخيّم الصمت"، الموت والجفاف ، هكذا على الأغلب سينتهي العالم بالنسبة لبيلا تار ، بتلك الرتابة والخفوت المُستحق.
سينمائياً ، على صعيدِ الصوت والصورة بشكلٍ مُباشر ، هو واحد من أفضل الأفلام التي شاهدتها خلال السنوات الأخيرة ، تصوير فريد كيلمان فاتِن جداً ، ولا يمكن فَصله كذلك عن الصورة المُعتادة أصلاً في أفلام بيلا تار ، والتفاصيل التي صارت مُقترنة به كتصوير الناس أثناء مَشيهم في لقطاتٍ طويلة ، أو أخذ حدث مُعين من أكثر من منظور خلال الفيلم ، أو لقطات الشبابيك والمُراقبة التي تظل ساحرة في كل مرة ، هو جزء من بصمة بيلا تار وتخطيطه لحركة الفيلم منذ مرحلة الكتابة ، وفي نفس السياق تأتي موسيقى "ميهالي فيج" ، الرجل الذي وَضع الصوت في كل أفلام "بيلا تار" ، ويبدو هنا مُدْهش جداً كالعادة ، مَقطوعات ثَقيلة الوطأة ، تليق بفيلمٍ عن نهاية العالم الرَّتيبة ، بالخفوتِ والظُّلمة ، ودون أي حدث كبير.
فيلم عَظيم للغاية ، ليس لكل الناس حتماً ، ولكنه إن تَرَكت نفسك له دون انتظار حَدث أو شيء هام ، وإدراك أنه – فقط - فيلمٌ عن الخفوت والموت ، فإنه سيأسرك تماماً ، الثالث على قائمتي لأفضل أفلام عام 2011 .
0 التعليقات :
إرسال تعليق