سواق الأتوبيس

كتب : محمد المصري

التقييم : 4.5/5

بطولة : نور الشريف ، ميرفت أمين ، عماد حمدي

إخراج : عاطف الطيب (1982)

مُعظم المَشاكِل في الأفلامِ المصريّة – حتى العظيم منها - واحدة ، أمور تتعلّق بالتقنيّة ، ضبط الإضاءة أو قطعات المونتاج أو توقيت وجود الموسيقى ، بل و جودتها أيضاً ، وأخرى تتعلّق بالأفكار ومحاولة التركيز دوماً على "المعنى" – لدرجة تصل إلى الوعظ - ووضع العديد من الخطوط تحته وتأكيده بمباشرةٍ مُزعجة ، مثلاً : إذا تجاوزنا هُنا مَشهد تجمُّع الأصدقاء تحت سفح الهرم لسرد ذكريات انتصار أكتوبر ، وتغاضينا عن موسيقى السلام الوطني المصري على مشهد الفينالة ، واستطعنا التصالُح مع مَشاكل تقنية في تصوير سعيد الشيمي وموسيقى عادل بكير ، فهذا واحِد من أعظم الأفلام التي شاهدتها في حياتي !

في تِلك الدراما الشكسبيرية التي لا يمكنني مراوغة الملك لير أثناء مُشاهدتها يُبهرني عاطِف الطيب – في فيلمِه الثاني فقط ! – بعدّة جُزئيات ، أوّلاً : القيمة الأدبية التي يَمنحها – ولو حتى دون قصد – لقصته ، البَطل الذي يَتمسّك بقيمٍ لَم تَعد موجوده ويُحاول إصلاح الأمور التي تتهدّم من حولِه على نسق أبطال المسرح الإغريقي القديم ، يَعود للأب في لحظةِ عَجزه بعد أن طرده قديماً من الورشة / المملكة ، على نَسق علاقة الملك لير وابنته كورديليا في مسرحيّة شكسبير ، وصولاً لنهاية تُكمِل الطابع التراجيدي/الملحمي للقصة ، الجُزئية الثانية هِيّ في تتبعه للتحوّلات الاجتماعيّة داخل المُجتمع المصري بعد نهاية عقد السّبعينات وتأثير الانفتاح الاقتصادي عليه ، وباستثناء مشاهد قليلة فقد حَدث ذلك بأقل قدر من المباشرة وعَبر قصّة تُتيح ذلك بشدّة ، الجانِب الثالِث يتعلّق بالتفاصيل ، تِلك التفاصيل شديدة الواقعية والتي تَمنح هويّة لما نشاهده وتُعرّفه كـ"فيلم مصري" ، "هؤلاء هُم أهلنا" ، هؤلاء هم من نراهم في الأتوبيس أو في الشارع أو تحت أسقف البيوت ، هؤلاء حين نراهم على شاشة السينما نتفاعَل معهم أكثر كثيراً ممن نراهم في بلادٍ لَيسَت كأرضنا ، تًبهرني هُنا تفاصيل الشارع .. الطّرق .. الأماكن .. المواصلات .. الملابِس .. الطعام .. العادات .. أسلوب الحوار ، يُبهرني مَشهد عابر للكمسري وهو يُحَصّل التذاكر أو آخر للبطل يُحضر شاياً من على القهوة كي يشربه في الأتوبيس ، تُبهرني فكرة أن "هؤلاء هُم نحن" وأن الثُّلاثي الذي كان جزءً أساسياً من موجة الواقعية في السينما المصريّة (عاطف الطيب .. محمد خان كاتباً للقصة هُنا .. بشير الدّيك) قد عَبّروا عنا إلى هذا الحَد وعَبر أداءات بَديعة من الجميع .. خصوصاً نور الشريف بأداء استثنائي جداً في مسيرته وعماد حمدي في آخر وأفضل أدواره ..

رُبما لم أستطع التصالح تماماً مع المشاكل التي أراها فيه ، ولكني – في تلك اللحظة على الأقل – أستطيع تجاوزها : هذا الفيلم عَظِيم !