كتب : محمود عياد
التقييم : 4.5/5
بطولة : همايون إرشادي ، عبد الرحمن باقري
إخراج : عباس كيارستمي (1997)
ها غمامُ السماءِ يسكبُ سَكـباً
كالأحبـّا علي قبور الأحبـّا
عَبَراتٍ يزهو بها المرجُ خِصـبا
و كما شاقـنا وراقُ العيـانا
زهرُ روضٍ نرنو إليه الآنـا
ليتَ شِعري إذ نحنُ في الرَّوضِ زهرٌ
أيّ عيـنٍ نروقُهـا إعجـابـا ؟
في
تلك الرباعيـّة لعمر الخيّـام -
شأنها شأن رباعيّاته الأخرى ، يبدو التذكير بحتمية الموت دائمُ الحضور تحت السطح ،
رغم إشارتها المستمرة لجماليات الحياة و دعوتها الحثيثة للتمسُّك بها ، الجمع بين
بساطة التكوين و الإيجاز المحكم و الدقة في إيصال الفكرة بأقصر الطرق الممكنة و
أكثرها صراحةً و تعبيرا ، ربما هذه البساطة و تلك الصراحة كانتا سبباً مباشراً في
تأثيرها الحسي السريع شديد التكثيف ، كان هذا تماماً هو منهج عباس كيروستامي في فيلمه هذا ، قدّم نصاً يتناول ثنائية
الحياة و الموت بطريقة مجردة ، بلا أي تفريعات جانبية أو خطوط ثانوية قد تكسر
الحالة التي وضع مُشاهده بها من اللحظة الأولي ، نص شديد الكتمان ، مساحات الصمت -
التأمليِّ - فيه أكبر من مساحات الكلام ، يطرح سيلاً متتابعاً من الأسئلة المبطّنة
، و لا يقدم دليلاً واحداً علي وجود أيّ إجابةٍ يقينيّة - و لا حتي محتملة - .
مبدأ
عدم اليقينيـّة مفعّلٌ هنا من اللقطة الأولي في تتابع الفيلم الافتتاحي - الطويل -
، لدينا رجل - يبدو في العقد الرابع من العمر - يقود سيارته في شوارع المدينة
بنوايا غامضة ، يعترضه علي جانبي الطريق مجموعات مختلفة من الرجال في انتظار أيّ
فرصة عمل ، لا يُبدي أيّ اهتمامٍ يُذكر ، يبدو أنه يبحث عن شيء محدد ، شخص محدد
بتعبيرٍ أدق ، هل للأمر أي منحيً جنسيّ ؟ ، هذا احتمالُ وارد ، سرعان ما يتلاشى
سريعاً ، يواصل النص فرض حالة الشك المستمرة تلك بشكل متتابع ، سنضطّر للانتظار لـ
٣ دقائق قبل أن ينطق البطل كلمته الأولي ، ٢٠ دقيقة قبل أول لقطة خارجية لطبيعة
البيئة الذي تتحرك فيها سيارته ، ٢٥ دقيقة قبل أن نعرف مبتغاه ، السيد "بادي"
يبحث عن شخص ما لمهمة بسيطة للغاية و مدفوعة الأجر أيضاً ، الرجل قرر الانتحار -
في ليل هذا اليوم - و اختار مكان دفنه و كل ما يريده أن يأتي الشخص المختار في
صبيحة اليوم التالي ليتأكد من موته و يهيل علي جسده التراب ، من هو السيد بادي ؟ ، ما
هي دوافعه للانتحار ؟ ، لماذا يرغب في أن يتم الأمر بتلك الطريقة تحديداً ؟ ، لا
نعرف أي إجابة لهذه الأسئلة - و لن نعرف - ، يقول كيروستامي أنّه لم يرغب في أي اتصال إنساني قد ينشأ
بين بطله و الجمهور ، لذا جرّده من السمات الروتينية لبناء الشخصية السينمائية ،
السيد "بادي" لا يعرف المشاهد شيئاً عن ماضيه ، تركيبة شخصيته ،
انفعالاته ، طبيعة عمله ، شبكة علاقاته الاجتماعية ؛ لا أهل ، لا أقارب ، لا
أصدقاء ، لا زوجة أو أطفال ، لا شيء ، كل ما يُقدّم لنا أنه شخص - مجرد شخص - اتخذ
قراراً بأن ينهي حياته ، يقول سيـوران : "مـا أن نرفضَ التعايش مع فكرة
الّلاجـدوي حتي نسقطُ في غواية الانتحـارْ" ، كيروستامي هنا يبرز
الفكرة علي حساب الشخصية ، بطله هنا مجرد وسيط عاكس لفكرة غياب جدوي كل شيء بما لا
يدع باباً واحداً متاحاً للرغبة في البقاء ، قد يكون الأمر علي مستوي أعمق من ذلك
، ربما فكرة الحرية الكاملة في معناها المجرد ، حرية القرار و الفعل ، و لو حتي
بلا أسباب منطقية .
يقابل
السيد "بادي" ٣ أشخاص في رحلته للبحث عن الرجل المنشود لمهمته ،
أولهما مُحارب صغير السن يشعر بالفزع و يهرب لدي سماعه للعرض ، ثانيهما شاب واعظ -
في العقد الثالث من العمر - يرفض مساعدة بادي رفضاً قاطعاً و يعطيه درساً دينياً في حرمة الانتحار ،
ثالثهما رجلٌ عجوز - يعمل خبيراً في علم تصنيف الحيوانات في متحف - له تجربة مسبقة
مع محاولة الانتحار و لم ينقذه من الموت إلا افتتانه في اللحظات الأخيرة بحبات
الكرز ، الرجل وافق مضطراً علي أن يقوم بالمهمة المطلوبة لحاجته للمال من أجل علاج
ابنه المريض ، اختيار كيروستامي للـ ٣ رجال الذين سيقابلهم بطله في طريقه يبدو في
غاية الأهمية ، لدينا العسكري و رجل الدين و رجل عادي من العوام (الثلاث تقسيمات
الأكثر وجوداً و تأثيراً في المجتمع الشرقي و الغربي علي حد سواء) ، لدينا أيضاً ٣
أعمار سنية مختلفة ، لدينا المراهق قليل الخبرة و التجريب ، و الرجل البالغ
المتحمس لفكرته و المقتنع بصحتها علي الدوام ، و العجوز المُجرب الذي يعرف من أين
تؤكل الكتف ، و لدينا ٣ طوائف إثنية مختلفة (الكردي و الباكستاني و التركي) ، كيروستامي هنا
يعرض شريحة واسعة من الشخصيات المكوِّنة لطبيعة المجتمع الإيراني علي اختلاف
أعراقها الإثنية و أعمارها السنية و كأنما يعرّض بطله للإختبار لمعرفة كيف سيتفاعل
مع مجموعة متنوعة من البشر ، ربما كان العكس هو الصحيح ، ربما أراد الرجل أن يختبر
ردود أفعالهم هم باختلاف ثقافاتهم و مرجعياتهم علي طلب غريب كهذا ٍ، و ربما كان
الأمر - كما ذهب البعض بعيداً في تحليله - أنّ تلك اللقاءات للسيد بادي مع هؤلاء
الشخوص لم تحدثْ أبداً في عالم الواقع و إنما هي من صنع خياله فقط .
علي
صعيدٍ آخر ، تبدو الخلفية البصرية التي استخدمها كيروستامي هنا ذات
مغزيً سردي واضح ، تلك البيئة الصحراوية الجافة ، صناعيـّة الطابع ، بلاستيكية
التكوين ، التي تنبض بالقسوة و تقتل أي فرصةٍ للحياة ، اللون الأصفر الأرضي
المسيطر علي الأجواء ، كثيف الاستخدام في التراث الأدبي الإيراني تعبيراً عن اليأس
و الاكتئاب ، ذلك اللون الرامز لفكرة الدفن ، يبرز هذا بشدة فيه أحد مشاهد الفيلم
حيث يقف البطل متأملاً أحد الجبال الرملية بينما يظهر انعكاس ظله علي سطح الجبل
يغطيه تماماً ظل الرمال المتساقطة من إحدي الناقلات و كأنما ابتلعه ، من ناحية
أخري ، يبدو الفيلم ظاهرياً كواحد من أفلام الطريق و لكنّه يفتقر إلي أيّ تقدمٍ
طوليّ ، البطل يدور دائماً في حلقة مفرغة ، يتحرك في طرق دائرية بشكل يجعل الأمر
يبدو و كأنه يعود إلي ذات النقطة التي بدأ منها ، يقول كيروستامي أن فكرة
الدائرية تشكل جزءاً من رمزية الفيلم ، الحركة في دوائر تعني - حرفياً - الذهاب
إلي اللّامكان ، أن تتحرك بلا غاية ، و لا هدف ، لكي تصلَ إلي وجهة ما ، لا بد أن
تنتقل من نقطة إلي أخري ، هذا تحديداً هو جوهر هذه الرحلة الدائرية التي ترمز إلي
فكرة الجمود ، و ما لا يتحرك لا يمكنه النمو أو التقدم ، يبقي عليلاً محكوماً عليه
بالموت المحقق .
يقودنا
كل هذا إلي التتابع الختامي ذي النهاية المفتوحة ، حيث يستلقي بادي في حفرته
بعد أن حسم أمره ، كيروستامي يبقي الأمر منفتحاً علي الاحتمالين ، هل قرر بادي إنهاء
حياته فعلا ؟ ، ربما ، و ربما لم يفعل ، هل يبدو مصيره مهماً حقاً ؟ ، لا أعتقد ،
ستمضي دورة الطبيعة علي أيّ حال ، يستلقي بادي في حفرته ناظراً للسماء ثم يحلّ السواد ليغطي كل شيء ، مع
أصوات الرعد و الأمطار في الخلفية كقداسٍ
للموت ، يظهر بوق لويس أرمسترونج بعد ذلك عازفاً للحركات الأولي من أغنية "مشفي القديس جيمس"
، التي تحكي عن رجل عسكري أنفق ماله علي الساقطات و مات في ذروة شبابه بمرض جنسيّ
، يتحول قداسه - فجأة - من الحداد إلي الفرح ،حيث يرثيه أصدقاؤه بالغناء فوق جثته
، الحياة دائماً تنبعث من أعماق الموت ، هل تبدو تلك التيمة مألوفة هنا ؟ ، ينتهي
الشريط بفيلم تسجيلي مدته دقيقتين - فيلم داخل فيلم - عن كواليس تصوير أحد المشاهد
، حيث يظهر السيد بادي و قد بُعث من بين الأموات ليتبادل السجائر مع السيد كيروستامي بينما
يشاهد حركة الجنود المصطفة - بعد أن حل الربيع – التي بدت في حواره مع المحارب
الشاب في بداية البداية و كأنّها الذكري الوحيدة التي تحمل سعادةً ما في نفسه .
كيروستامي يقدم
هنا نصاً يمتنع تناوله علي أيّ مستويً نفسيّ قد يسطحه ، متخذاً منحي شديد الفلسفية
، هذه مرثية عظيمة عن قيمة الحياة في حد ذاتها ، الوجود البشري نفسه ، في حضورٍ -
دائم - للموت مغلفاً لكل شيء ، تماماً كما فعل الخيـّام في أشعاره من عشرة قرون ..
كيروستامي الذي - قيل - أنه لم يشاهد أكثر من ٥٠ فيلماً طوال
حياته ، المولع بالطرق و السيارات ، تأثر بواقعية دي سيكا و فيليني و عشق صوفيا لورين و
كلوديا كاردينالي .. كيروستامي الذي ظل عالقاً بين الفصول لسنوات كقصاصة قش ، جاءت
به الرياح في أول أيام الصيف ، و لم تمهله الأقدار أن تحمله الرياح في آخر أيام
الخريف - كما تمني - ، عاش حياةً ملؤها كل شيء ، و ذاق طعم الحنْظل مراراً ، ربما
لهذا - تحديداً - كان أفضل مَن تذوق طعم الكـرز .
و اضطّراراً قد جئت
هذي الديـارا
و سأضطّر للرحـيل
اضطـّرارا
و اختياري ان استطعتُ
اختيارا
ان أسرّي عن الفؤاد
الهمـوما
في حياةٍ ملأي أسيً و
غُموما
فأدرْها سـلافةً و
اسقنيـها
نعمةً فالوجود كان
مُصابـا
"عمر الخيّـام"
0 التعليقات :
إرسال تعليق